الظاهر بيبرس: سلطان مصر والشام وقاهر المغول والصليبيين

مقدمة
تعرف على الظاهر بيبرس: سلطان مصر والشام وقاهر المغول والصليبيين
الظاهر بيبرس هو أحد أشهر سلاطين الدولة المملوكية التي حكمت مصر والشام في العصر الإسلامي الوسط. ولد في منطقة القبجاق على شواطئ البحر الأسود، وأسِر من قِبَل المغول ثم بيع كعبد في أسواق بغداد والشام. انتقل لخدمة الملك الصالح نجم الدين أيوب، ثم انضم إلى جيشه وأظهر شجاعة وفروسية لا مثيل لها. قاد معارك عديدة ضد الصليبيين والمغول والحشاشين، وحقق انتصارات باهرة أبرزها معركة عين جالوت التي سحق فيها جيش المغول وأوقف تقدمهم نحو بلاد الشام. أصبح سلطاناً على مصر بعد اغتيال السلطان قطز، وأنشأ نظاماً إدارياً وعسكرياً قوياً، وأحيا الخلافة العباسية في القاهرة، وبنى مسجداً ومدرسة تحمل اسمه. توفي في دمشق بعد رجوعه من معركة الأبلستين ضد المغول سنة 1277 م. يعتبر الظاهر بيبرس من أعظم الشخصيات التاريخية في الإسلام، وقد اشتهر بذكائه وإصراره وبصيرته وحبّه للجهاد في سبيل الله.
في هذا المقال سنتعرف معكم في موقع وثائقيه من هو الظاهر بيبرس وما هو أصله ونشأته وما هي صفاته وما هي بداية ظهوره ومقتل السلطان قطز وتوليه الحكم وسياساته الداخلية والخارجية ووفاته.
أصله ونشأته
لا يعْرَف بالضبط مكان ولادة الظاهر بيبرس، لكن يعْتَقَد أنه من منطقة تقع على شواطئ البحر الأسود تسَمّى القبجاق، والتي كانت تضم قبائل ترْكِيةً مخْتَلِفَةً. يقَال أن اسمه الأصلي هو بارس باي، أو فهد أمير، لأن “بارس” تعني فهد باللغة التُرْكِية، و”باي” تعني أمير.
ولِد بيبرس نحو عام 1223 م، وفي سن صغيرة أسِر من قِبَل المغول، الذين كانوا يغزون منطقته، ثم بيع كعبد في أسواق بغداد. لفت انتباه التَّجَّارِ بجماله وقوته وشجاعته، فنُقِل إلى الشام، حيث اشتراه الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري، وهو أحد مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب. سمِّي بيبرس بالبندقداري لأنه كان يحمل بندقية، وهي سلاح ناري جديد في ذلك الوقت.
تلقى بيبرس تعليماً عسكرياً ودينياً وثقافياً عالياً في خانقاه أو دار للصوفية تابعة للأمير أيدكين في بركة الفيل بالسيدة زينب في القاهرة. تعلم اللغة العربية والفقه والحديث والتاريخ والأدب، كما تعلم فنون القتال والرماية والصيد والمُبَارَزَة. كان مُحِبّاً للرياضة والمغامرة، وكان يتمتع بصحة جيدة رغم أنه كان يعاني من مشكلة في إحدى عينيه.
صفاته
بعض الصفات التي تميزت بها شخصية الظاهر بيبرس هي:
- الشجاعة: كان بيبرس شجاعاً في مواجهة الأعداء، ولا سيما المغول والصليبيين، الذين كانوا يُشَكِّلُون خطراً على الإسلام والأمة. لم يخشَ من الموت في سبيل الله، وكان يحث جنوده على الجهاد والثبات. قاد معارك حاسمة ضد المغول في عين جالوت والأبلستين، وضد الصليبيين في المنصورة وأنطاكية، وحرر مدَنَ كثيرة من يدهم.
- الذكاء: كان بيبرس ذكياً في التخطيط والتنفيذ، وكان يستخدم استراتيجيات مبْتَكَرَةً في الحرب. استطاع أن يخدع المغول بإظهار ضعف جيشه، ثم يفاجئهم بهجوم مفَلجئٍ في عين جالوت. كذلك استطاع أن يستغل خلافات الصليبيين بين بعضهم، وأن يقْطِعَ خطوط إمدادهم، وأن يستولى على قلاعهم.
- الإصرار: كان بيبرس مصِرّاً على تحقيق أهدافه، ولا يستسلم للصعاب أو الفشل. كان يعمل بجد وبثبات لتقوية دولته، وتحسين أحوال شعبه، وإصلاح مؤسساته. كان يراقب شؤون دولته بنفسه، ولا يثق بأحد دون تجربة. كان يزور المدن والقرى سراً لمعرفة حال الناس، ويحاسب المفسدين والظالمين.
- البصيرة: كان بيبرس بصيراً بالأحداث التاريخية والجغرافية، وكان يدرك خطورة المغول على الإسلام. كان يتابع تحركاتهم وتحالفاتهم، ويحاول منع اندماجهم مع الصليبيين أو الخوارزميين أو التتار. كان يستشير علماء الدين والفقهاء في شؤون دولته، ويحترم رأيهم. كان يقدر قيمة العلم والثقافة، وكان راعياً للعلماء والأدباء والفنانين.
بداية ظهوره في المقدمة
ظهر بيبرس في المقدمة لأول مرة عام 1249 م، عندما هاجم الملك لويس التاسع مصر بجيش من الصليبيين، مستغلاً ضعف دولة أيوبية. كان بيبرس حينئذٍ أحد قادة المماليك البحرية، وهم مجموعة من العبيد الذين اشتروهم السلطان الصالح أيوب لتعزيز جيشه. شارك بيبرس في معركة المنصورة، التي تصدى فيها المماليك للصليبيين وأجبروهم على التراجع إلى دمياط. كان بيبرس من أوائل الذين اقتحموا خيمة الملك لويس، وأخذوا أسرى من رجاله.
بعد وفاة السلطان الصالح أيوب، تولى ابنه تورَانْ شَاه سلطنة مصر، ولكنه كان ضعيفاً وغير محبوب من قِبَل المماليك. انقلب عليه بعض قادة المماليك البحرية، وأطاحوا به من الحكم، وأعلنوا سلطاناً آخر يسَمّى عز الدين أيبك. كان بيبرس من أنصار تورَانْ شَاه، وحاول إنقاذه من الاغتيال، لكن دون جدوى. اضطر بعد ذلك إلى التعاون مع أيبك، وأصبح نائبه في الشام.
في الشام، استأنف بيبرس نشاطه الجهادي ضد الصليبيين والمغول. حارب الصليبيين في فلسطين والجولان والساحل، وأخذ منهم عدة حصون وقلاع. كما حارب المغول في سورية والجزيرة، وأوقف تقدمهم نحو حلب وحمص. كان يتحالف مع بعض الأمراء الإسلامية في المنطقة، مثل نور الدين زنكي في حلب، والظاهر ركن الدين في حماة، والظاهر سعد الدين في حمص. كان يتفق معهم على تقاسم الغنائم والأراضي التي يستولون عليها من الأعداء.
مقتل السلطان سيف الدين قطز
في عام 1260 م، وصلت أنباء إلى الشام عن تقدم جيش المغول بقيادة هولاكو خان نحو بغداد، وأنه قد هدمها وقتل خليفة المسلمين المستعصم بالله. شعر بيبرس والمماليك بالخطر الداهم، وقرروا مواجهة المغول قبل أن يصلوا إلى الشام. طلبوا من السلطان سيف الدين قطز، الذي تولى سلطنة مصر بعد وفاة أيبك، أن يرسل لهم مزيداً من التعزيزات. وافق قطز على ذلك، وخرج بجيش كبير من مصر نحو الشام.
التقى قطز ببيبرس في فلسطين، واتفقا على توحيد قواتهما ضد المغول. اختارا مكاناً للمعركة يسَمّى عين جالوت، وهو وادٍ ضيق في جبال الجليل. كان المغول يتقدمون بثقة نحو الشام، وكانوا يظنون أنهم لا يواجهون مقاومة جادة. لكنهم فوجئوا بجيش المماليك، الذي كان يتألف من حوالي 20 ألف مقاتل، في حين كان جيش المغول حوالي 40 ألف مقاتل.
بدأت المعركة في 3 سبتمبر 1260 م، واستمرت لعدة ساعات. استخدم بيبرس وقطز خطة ذكية لإرباك المغول، فأظهروا ضعفهم في البداية، ثم هاجموهم بشراسة من جميع الجهات. تكبد المغول خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وفرّ قائدهم كتبغا من المعركة. انتصر المماليك على المغول، وأحبطوا مخططاتهم لغزو الشام. كانت هذه المعركة من أهم المعارك في التاريخ الإسلامي، لأنها أنقذت الأمة من خطر المغول، وأثبتت أنهم ليسوا لا يقْهَرُون.
بعد انتصاره في عين جالوت، عاد قطز إلى مصر محملاً بالغنائم والأسرى. كان يستعد للاحتفال بالنصر، لكنه تعرض لاغتيال من قِبَل بعض المؤامرين من المماليك البحرية، الذين كانوا يخافون من نفوذه وشعبيته. قتِل قطز في خَزَانَةِ دارِهِ في 24 أكتوبر 1260 م، وأخْفِىَ جثمانُهُ في صنْدُوقٍ خشبِيٍّ.
الظاهر بيبرس سلطاناً على مصر
بعد مقتل قطز، تنازع المماليك البحرية على السلطة في مصر، وحدثت اضطرابات وفوضى في البلاد. كان بيبرس في الشام حين سمع بالخبر، فعاد إلى مصر بسرعة، وتمكن من تهدئة الوضع، وإقناع المماليك بأن يختاروه سلطاناً على مصر. أقسموا له البيعة في 27 أكتوبر 1260 م، وأعلنوا عن توليه الحكم باسم الظاهر ركن الدين بيبرس المنصوري. كان هذا هو أول حالة في التاريخ الإسلامي يصبح فيها عبد سلطاناً.
أول ما فعله بيبرس بعد توليه السلطة هو التخلص من المؤامرين الذين قتلوا قطز، وإعادة النظام والأمن إلى مصر. ثم أرسل رسائل إلى جميع الأمراء والحكام في الإسلام، يخبرهم بتوليه الحكم، ويدعوهم إلى التعاون معه في مواجهة المغول والصليبيين. كما أرسل رسائل إلى هولاكو خان، يحذره من مغبة مواصلة الحرب ضد المسلمين، ويطالبه بالانسحاب من بغداد والشام.
ثم أقام بيبرس احتفالاً كبيراً في القاهرة، للاستقبال المهِيْبِ لجثمان خليفة المسلمين المستعصم بالله، الذي أرْسِلَ إليه من قبَل هولاكو خان كإهانة له. أظهر بيبرس احتراماً عظيماً لجثمان الخليفة، وأشعل له نيران العزاء، وأقام له جنازة شعبية، ودفنه في مقبرة خاصة. ثم أعاد إحياء الخلافة العباسية في القاهرة، وأختار خليفة جديداً يسَمّى المستنصر بالله. بهذا، أظهر بيبرس تولِّيَهِ مسؤولية قيادة الأمة الإسلامية، وحفظ شرفها وكرامتها.
سياساته الداخلية
بعد أن أنشأ بيبرس نظاماً سياسياً وعسكرياً قوياً في مصر، أهتم بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في البلاد. من أهم سياساته الداخلية:
- تطوير الزراعة والتجارة: أصلح بيبرس الري والزراعة في مصر، وأنشأ مشاريع لزيادة المحاصيل والإنتاج. كما نشط التجارة مع الدول المجاورة والبعيدة، وأنشأ أسواقاً وخانات وموانئ. كان يحمي التجار من الضرائب المفرطة والإكراه والنهب.
- تنظيم الإدارة والقضاء: أصلح بيبرس الإدارة والقضاء في مصر، وأنشأ دوائر ومؤسسات لتسهيل شؤون الحكم. كان يراقب الموظفين والقضاة بنفسه، ويحاسبهم على أخطائهم. كان يحترم حقوق المواطنين، ويعطيهم فرصة للشكوى والطعن.
- تشجيع العلم والثقافة: أحب بيبرس العلم والثقافة، وأنشأ مدارس وجامعات ومكتبات لتعليم الشباب. كان يدعم العلماء والأدباء والفنانين، ويكرمهم بالهدايا والوظائف. كان يحضر المجالس العلمية والأدبية، ويشارك فيها. كان يهتم بتاريخ مصر، وأوصى بكتابة سيرته في كتاب يُسَمّى “ذيل طبقات المماليك”.
- تجديد المباني والآثار: أهتم بيبرس بتجديد المباني والآثار في مصر، خاصة تلك التي تضررت من هجوم الصليبيين. كان يبني مساجد ومدارس وخانقاهات وحمامات وقلاع. كان يزخرفها بالفنون الإسلامية، مثل الخط والزخرفة والنحت. كان يحافظ على آثار الفراعنة، ويرفض تدميرها أو نقلها.
سياساته الخارجية
كانت سياسات بيبرس الخارجية تهدف إلى حماية دولته والأمة الإسلامية من الأعداء الخارجيين، وتوسيع نفوذه ونجاحه في المنطقة. من أهم سياساته الخارجية:
- مواجهة المغول: كان بيبرس مصمماً على مواصلة الحرب ضد المغول، ومنعهم من الاستيلاء على الشام والعراق والحجاز. كان يرسل جيوشه وسفراءه إلى تلك المناطق، لتحالف مع الأمراء والحكام المحليين، وتشجيعهم على مقاومة المغول. كان يستغل خلافات المغول بين بعضهم، ويحاول تأليب بعض قبائلهم ضدهم. كان يستخدم التجسس والاغتيال والتخريب لإضعاف قوتهم.
- محاربة الصليبيين: كان بيبرس حريصاً على محاربة الصليبيين، وطردهم من بلاد الشام والساحل. كان يشن حملات عسكرية على مُدَنِهِمْ وقلاعِهِمْ، ويستولى عليها بالقوة أو بالمفاوضات. كان يتفق مع بعض الدول الأوروبية، مثل إنجلترا وفرنسا، لإطلاق سراح بعض أسرى الصليبيين مقابل فدية أو تنازلات. كان يحاول إثبات أن دولته هي القوة الإسلامية الأكبر في المنطقة.
- تقارب مع الممالك الإفريقية: كان بيبرس يهتم بتقارب مع الممالك الإفريقية، خاصة تلك التي تقع في شمال أفريقية وغرب أفريقية. كان يرى فيها شركاء تجاريين وثقافيين ودينيين. كان يرسل سفارات إلى ممالك مثل تونس والجزائر والمغرب وغانا ومالى، ويرحب بسفاراتهم في مصر. كان يدعم بعض المشروعات في تلك المناطق، مثل بناء المساجد والمدارس والحج.
وفاته
توفي الظاهر بيبرس في دمشق في 1 نوفمبر 1277 م، بعد رجوعه من معركة الأبلستين ضد المغول. كان قد أصيب بمرض في الرئة، وتدهورت حالته بسرعة. قبل وفاته، أوصى بنجله بركة خان بأن يخلفه في الحكم، وأن يحافظ على دولته وشعبه. أقيمت له جنازة مهيبة في دمشق، وحضرها العديد من الأمراء والعلماء والجنود. دُفِنَ في مقبرة خاصة بالخانقاه التي بناها في دمشق، والتي تحمل اسمه.
خاتمة
الظاهر بيبرس هو سلطان مصر والشام ومنقذ الأمة من المغول. كان شجاعاً وذكياً وإصراراً وبصيراً. قاد معارك عظيمة ضد الصليبيين والمغول والحشاشين، وحقق انتصارات باهرة. أنشأ نظاماً إدارياً وعسكرياً قوياً، وأحيا الخلافة العباسية في القاهرة. أصلح الزراعة والتجارة والإدارة والقضاء في مصر. أحب العلم والثقافة، ودعم العلماء والأدباء والفنانين. تجديد المباني والآثار في مصر. تحالف مع التتار والممالك الإفريقية ضد المغول. توفي في دمشق، ودُفِنَ في خانقاه تحمل اسمه. يعتبر من أعظم الشخصيات التاريخية في الإسلام.